هل لك أن تتعاطف ولو للحظة واحدة مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن؟ فقد أمضى بوش الجزء الأعظم من حياته يفعل ما يشاء، ودون أن يأبه لما يقوله الناس عنه. ومثلما هو دأب جميع الرؤساء الأميركيين السابقين، غادر بوش مكتبه البيضاوي في "واشنطن دي سي" إلى طاولة الكتابة مباشرة، ليخرج علينا بمذكراته الرئاسية التي نشرت للتو، والتي زعم فيها أنها سوف تسهم في تصحيح سجل أدائه الرئاسي. مذكرات بوش هذه لا صلة لها بالحوار السياسي الدائر حول قضايا اليوم. ومثلما أوضح في اللقاء التلفزيوني الذي أجري معه عقب نشر الكتاب، فقد تسلط اهتمامه في هذه المذكرات على الكيفية التي سوف يحكم بها التاريخ على القرارات الرئاسية التي اتخذها خلال ولايتي رئاسته لأميركا. كما أبدى بوش حرصاً واضحاً -سواء كان في محتوى الكتاب، أم عبر اللقاء التلفزيوني المذكور- على عدم توجيه أي انتقادات مباشرة لخلفه الحالي أوباما، على الرغم من فوز الأخير بحملة السباق الرئاسي لعام 2008 على أساس انتقاداته اللاذعة التي وجهها إلى سجل بوش الرئاسي من قمته إلى قاعدته. ويبدو أن بوش قد اتسم بقدر كبير من سعة الصدر إزاء الانتقادات التي يوجهها إليه "اليسار" الأميركي، طالما كانت تلك الانتقادات صادقة ونزيهة كما يقول. بل أبدى بوش إعجاباً -في كتابه الأخير- بذكاء وانضباط الحملة الانتخابية الرئاسية التي قادها أوباما، إلى جانب إشادته باستخدام تلك الحملة للتكنولوجيا المتقدمة في إدارة أنشطتها وبرامجها وحملات تمويلها. ومع ذلك، فما أصعب أن توجه الانتقادات والسهام إلى أهم المبادئ التي آمن بها بوش وشكلت الجزء الأعظم من سياسات إدارته من قبل أفراد في معسكره "الجمهوري" بالذات، إضافة إلى الهجمات الشرسة التي تعرض لها من قبل خصومه الليبراليين و"اليساريين". ففي العامين 2006 و2008 حقق "الديمقراطيون" فوزهم الانتخابي تأسيساً على النفي القاطع للناخبين بأنهم ليسوا جورج بوش، وهي رسالة تبرؤ واضح من جانبهم من كل ما له علاقة بسياسات إدارة بوش وممارساتها العملية. وفي انتخابات الكونجرس النصفية التي جرت مؤخراً في شهر نوفمبر الحالي، فاز "الجمهوريون" تأسيساً على إرسال رسالة مناقضة للناخبين: نحن لسنا أوباما آخر، ولكننا لسنا بوش أيضاً! والذي يهمنا في هذه الرسالة هو جزؤها الأخير الذي يعبر عن تبرؤ واضح من قبل "الجمهوريين" و"المحافظين" من الإرث الرئاسي الذي خلفه لهم بوش. ذلك ما أكده جون إي بوينر عضو الكونجرس الجمهوري -المتوقع له أن يتولى رئاسة مجلس النواب- بقوله في وقت مبكر من العام الحالي: "لقد تعلم الجمهوريون دروس تجربتهم السياسية. فقد أسرفنا كثيراً في الإنفاق الحكومي خلال الإدارة السابقة، بينما اتسع كثيراً دور الحكومة وازداد تدخلها في إدارة الاقتصاد القومي، في ذات الوقت الذي أخفق فيه الطاقم الإداري الحكومي في الالتزام بأهم المبادئ التي تؤمن بها الحركة الأميركية المحافظة". أما على صعيد قادة حركة حفل "الشاي"، فقد جاءت الانتقادات صريحة ومباشرة لإرث جورج بوش السياسي، من قبل قادة ناشطين من أمثال السيناتور "جم دو مينت"، الذي قال: "إن من أهم ما أسفر عنه الإرث السياسي لبوش، هو تدمير حزبنا المحافظ". يضاف إلى ذلك القول إن معظم القادة "الجمهوريين"، الذين خلفهم بوش وراءه شجبوا سياسات إدارته، وإن كان هذا الشجب لم يوجه إلى إدارة بوش صراحةً. فقد حمّل هؤلاء الإدارة السابقة مسؤولية تفاقم معدلات عجز الميزانية الفيدرالية، وكذلك مسؤولية توسيع دور الحكومة الفيدرالية في إدارة الاقتصاد القومي، إضافة إلى مسؤولية الإدارة السابقة عن استغلال أرصدة الميزانية الفيدرالية في إنقاذ كبرى البنوك والمؤسسات المالية المتسببة في الأزمة الاقتصادية الأخيرة. وشجب هؤلاء القادة "المحافظون" في حركة حفل "الشاي" وخارجها، مشروع إصلاح قانون الهجرة الذي تبنته إدارة بوش، لما نص عليه من بنود تمنح الجنسية الأميركية للكثير من المهاجرين غير الشرعيين، في خطوة منها لتصحيح أوضاعهم وإصدار عفو عام عنهم. وفيما يتعلق بمساعي بوش بشأن تعزيز علاقات بلاده بالعالم الإسلامي، فقد تعرضت هذه المساعي والجهود لانتقادات حادة وعنيفة من قبل الكثيرين داخل حزبه "الجمهوري"، من بينهم رئيس مجلس النواب السابق نويت جنجريتش، الذي دعا إلى شن حرب ثقافية عالمية ضد المتطرفين بدلاً من السعي إلى تحسين العلاقات بين واشنطن والعالم الإسلامي. وهناك قلة "يمينية" محافظة مضت أكثر في انتقاداتها لسياسات الإدارة السابقة، بما فيها قرارات بوش بشأن غزوه لكل من العراق وأفغانستان. يذكر أن معظم "الجمهوريين" و"المحافظين" لم يظهروا حماساً يذكر لطموحات بوش ولا حملته الرامية إلى نشر الديمقراطية وقيم الحرية في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، على رغم أن بوش كان يأمل في أن يكون ذلك الإنجاز -الذي لم يتحقق مطلقاً- أهم إرث لرئاسته. وربما لم تؤيد غالبية "الجمهوريين" من سياسات إدارة بوش السابقة سوى تبنيها لسياسات الخفض الضريبي التي يتوقع لها أن تنتهي مدة سريانها بنهاية العام الحالي. أما ما يتعلق بالوصفات العلاجية لنظام "مديكير" الخاص بالرعاية الصحية للمسنين، فقد شجبها "الجمهوريون" بسبب ارتفاع تكلفة فواتيرها، لكنهم تعهدوا في الوقت ذاته بتأييدها نظراً لشعبيتها الواسعة. وكان ذلك موقفاً تكتيكياً ذكياً مكنهم من حصد نسبة 58 في المئة من أصوات الناخبين الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً فما فوق في انتخابات الكونجرس النصفية التي جرت للتو. وعلى أية حال، فليس أمراً مفاجئاً أن يسعى بوش إلى دفع سهام منتقديه وصدها عنه، يميناً ويساراً. غير أن مذكراته الرئاسية التي نشرها للتو، لم تزد تلك السهام إلا حدة وتساقطاً عليه من معسكره "الجمهوري"، ومن معسكر خصومه الليبراليين على حد سواء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دويل ماكمانوس محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"